الخصال الحميدة التي يربى بها الفتى:
التصق أدب الجاهليين بحياتهم اليومية التصاقاً وثيقاً، فالعربي كان يقتبس خلقه من تجاربه ومن حنكته، ويجعها سجلاً للمثل والأخلاق العربية الجاهلية والوثائق التربوية الشعرية تسجل تلك المثل وتحببها إلى نفس الفتى العربي، مما جعل للشعر دوراً في مجال التربية، يمكن استخدامه في التربية الحديثة.
ومثل هذا الشعر يعتبر من الأدب الرفيع والخلق السامي. فقصيدة مفضلية من أولها إلى غايتها سياسة رسمها الشاعر لابنه "جبيل" اقتبسها من خلق العربي ومن تجاربه وحنكته. فهي بذلك سجل للمثل الأخلاقية العالية عند العرب ودليل على عناية هؤلاء القوم بتربية أبنائهم، وحرصهم على السمو بها، وهي للشاعر عبد قيس بن خفاف قال :
أجُبيْلُ إنّ أباك كارَبَ يَوْمُه
فإذا دُعيت إلى العظائِمِ فاعمَلِ
أوصيك إيصاءَ امرئٍ لك ناصِحٍ
طَبِنٍ بريب الدَّهرِ غير مُغَفَّلِ
الله فاتَّقِهِ وأوف بنذرِهِ
وإذا حلفت محارباً فتحلَّل
والضيفَ أكْرِمْهُ فإنَّ بيتَهُ
حقٌّ، ولا تك لُعْنَةً للنزَّلِ
واعلم بأنّ الضيفَ مخبرُ أهْلِهِ
بمبيت ليلتهِ وإنْ لم يُسْألِ
ودع القوارص للصّديقِ وغيرهِ
كي لا يروك من اللئام العزَّلِ
فهو يضع الخطوط العريضة فيحمله على الأخذ بتقوى الله، وإيفاء النذور، ومواصلة الصديق الوفي بالود، وألا يدخل في جدال عقيم، ويحثه على إكرام الضيف، وتجنب الكلام القبيح.
ثم يحذره في قسم آخر من الإقامة في دار الهوان، فمن أقام في دار الهوان سهل عليه الهوان، وليس من يرفض الهوان، كمن يعتمل الضيم ويقوم عليه، يقول :
وصِلِ المواصِلَ ما صفا لك وُدُّه
واحذر حبال الخائن المتبدِّلِ
واترك محل السوء لا تحلل به
وإذا ؟؟ منزل فتحوَّلِ
دار لهوان لمن رآها دارَهُ
أفَراحِلٌ عنها كمن لم يَرْحَلِ
ولْيتَّئد المرء إذا تحدثه نفسه بالشر، وليسرع إلى عمل الخير عاجلاً. هذه تعليمات لاحقة في القصيدة ذاتها في وقت كان الناس فيه يكيلون الصاع صاعين.
وهذا لا يعني أن ينصاع الإنسان للقوارص، فيطلب منه ألا يسكت على الظلم وأن يدفع العدوان بالعدوان، ولكن العدوان هنا دفاع عن النفس ونفي للذل والهوان، يقول :
وإذا هممت بأمْرِ شرٍّ فاتَّئِدْ
وإذا هممت بأمر خيرٍ فافْعَلِ
وإذا أتتك من العدوِّ قوارِصٌ
فاقرُصْ كذلك ولا تقُل لم أفْعَلِ
وليس مطلوب من المرء أن يتجشع ويتذلل إن حل به الفقر، كما يجب ألا يرجو زيادةً أو فضلاً عن غير المفضلين.
وفي الحرب على المرء أن يكون فتاكاً شجاعاً، يتقيه الناس ويتحامونه كما يتحامون الأجرب وطلاءه.
وخير ما يستغني به الإنسان عن الناس هو الله، فحين يغني الله يكون الصرف من ماله، وإذا وقع الفقر، فليس أفضل من التجلد وتكلف الصبر، يقول:
وإذا افتقرت فلا تكن متخشناً
تزجوا الفواضل عند غير المُفْضِلِ
وإذا لقيت القوم فاضرب فيهم
حتى يروك طلاء أجربَ مُهْمِلِ
واستغن ما أغناك ربك بالغنى
وإذا تصبك خَصاصةٌ فتجمَّلِ
والجاهلي يريد لولده أن يتعلم الأناة والصبر في الأمور كلها، ولا يريد له التودد ، كما يدربه على حسم الأمور، فإذا حدث ونازعته نفسه في أمرين، ما عليه إلا أن يلجأ إلى العفيف منهما. والتفريج عن الكرب أمر يريده الجاهلي لولده، فمواساة المحتاج وإجابته لما يريد وتخليصه من الهم والكرب أمر ذو قيمة رفيعة فيها دربة تربوية، قال:
واسْتَأنِ حلمك في أمورك كلِّها
وإذا عزمت على الهوى فتوكَّلِ
وإذا تشاجَرَ في فؤادِك مرّةً
أمرانِ فاعْمِدْ للأعفّ الأجْمَلِ
وإذا لقيتَ الباهشين إلى النَّدى
غُيْراً أكفُّهم بقاعٍ مُحصلِ
فأعِنْهمُ وايْسِرْ بما يَسَروا بهِ
وإذا هُمُ نَزَلُوا بِضَنكٍ فانْزِلِ
والذي نأخذه على أصحاب تلك الوثائق التربوية أنها تأتي متأخرة عند الكبر والشيخوخة، أو عند الموت. والأصل في هذا أن تصدر عن قوة وعزيمة فتكون ورقة نافعة وعملية، بدل أن تكون عظةً مؤثرة في ساعة موت. فهذا عبدة بن الطبيب لما أسنّ ورابه جمع بنيه يوصيهم في هذه القصيدة. فأنشأ يسرد لهم ما خلف من مآثر باقية. ثم نصحهم بتقوى الله وبر الوالد، والاتحاد وترك التنابذ، والحذر من النمّام والمنافق ثم نوّه بحسن رأيه في المفضلات وغلبته في المفاخرة.
ثم صور يومه الأخير، وذكر البكاء والقبر، وقدم لبنيه عزاء بأن الموت غاية كل حي، قال :
أبنيْ إنّي قَدْ كبرتُ ورابَني
بَصَري، وفي المصلِحِ مستمتعُ
فلئنَ،ْ هَلكْتُ لَقَدْ بنيتُ مساعياً
تبقى لكم منها مآثِر أرْبَعُ
ذِكْرٌ إذا ذُكِرَ الكرامُ يزيّنكُم
ووراثةُ الحَسب المقدّم تنْفَعُ
ومَقامُ أيامٍ لهنَّ فَضِيْلَةٌ
عندَ الحفيظَةِ والمَجامِعِ تجمعُ
ولُهىً من الكسب الذي يغنيكم
يوماً إذا احْتَضَر النّفوسَ المطمعُ
ونصيحةٌ في الصَّدْرِ صادِرَةٌ لكُمْ
ما دمْتُ أبصر في الرّجالِ وأسمعُ
أُوْصِيكم بتقى الإله فإنَّه
يُعْطي الرّغائبَ مَنْ يشاء ويمنعُ
وببرّ والدكم وطاعةِ أمْرِه
إن الأبر من البنين الأطمعُ
إن الكبير إذا عصاه أهْلُهُ
ضاقَتْ يَداه بأمره ما يصنعُ
ودعوا الضَّغيْنَةَ لا تكُنْ من شَأْنِكم
إنَّ الضَّغائن للقرابة توضعُ
واعصُوا الذي يزجي النمائم بيْنكم
متنصحاً، ذلك السّمام المنقعُ
إنّ الحوادث يخترمن، وإنّما
عمر الفتى في أهله مستودعُ
يسعى ويجمع جاهداً مستهتراً
جداً، وليس بآكلٍ ما يَجْمعُ
ويلاحظ أن هذه الخطوات والتوجيهات التي يريدها الشاعر- ولنا عودة إليها- ما هي إلا استجابة لحاجات كانت قائمة في المجتمع الجاهلي.